عندما كانت الجهود المصرية في ذروتها من أجل اعادة تمديد فترة التهدئة بين الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة وأسرائيل في شهر ديسمبر 2008 م ، كان لدى الأطراف، الفصائل الفلسطينية من جهة و أسرائيل من جهة ثانية، أجندات أخرى خاصة بكل طرف لا تتماشى مع الرؤية المصرية الهادفة الى عدم تدهور الأمور نحو الهاوية.
مصر أعلنت بشكل صريح وواضح ولا يحتمل التأويل بأن الامور تتجه نحو الكارثة إذا لم تتوقف الأطراف المتصارعة عن أعمالها التي تشحن الأجواء وتتجه للمواجهة الدموية.
وخبرتها ومعرفتها ببواطن الأمور، ولتجربتها الطويلة مع السلوك والعقلية الإسرائيلية، استشعر الرئيس محمد حسني مبارك الخطر وقام باستدعاء وزيرة خارجية إسرائيل تسيفي ليفني الى شرم الشيخ لينذرها ويحذرها من خطورة شن العدوان على قطاع غزة.
والجهود المصرية مستمرة مع الفصائل الفلسطينية لإعادة التهدئة. وحذروها من القيام بأي عمل عدواني ضد القطاع أو إعادة إحتلاله و المس بأرواح وممتلكات الشعب الفليسطيني.
وبالمقابل إستخفت الفصائل الفلسطينية بالتحذيرات المصرية، ولم يكن لديها تقدير موقف. الفصائل اعتقدت أن أقصى ما يمكن أن تقوم به اسرائيل قصف جوي مع بعض التوغلات في بعض الجيوب في شمال القطاع وشرق الشجاعية، وإحتمالات إستخدام سلاح البحرية، هذا النوع من العمليات المحدودة تعرض لها القطاع منذ عام 2000 م.
ومثل هذه الضربات، يمكن استيعابها وتحملها. هذا التقدير الخاطئ للموقف العسكري دفع حماس وقيادتها السياسية في دمشق بعدم الموافقة على تمديد التهدئة، والإستمرار بإطلاق الصواريخ نحو البلدات الإسرائيلية.
قيادة حماس في قطاع غزة كانت مع تمديد التهدئة، وهي الموجودة على الأرض وفي الميدان، ولكن لم يكن بيدها شيء، والقرار صدر من دمشق.
وفي الجانب الإسرائيلي، تبين أن إيهود باراك لم يكن متحمساً للحرب، على الأقل ما صدر عنه من تصريحات إعلامية، و كان يفضل تمديد التهدئة في حين أن إيهود أولمرت، المنتهية ولايته، معه تسيفي ليفني مع القيام بعملية عسكرية واسعة.
ومن جانب آخر كانت هيئة الأركان الجنرال أشيكنازي أقرب لوجهة نظر وزير الحرب باراك. وأما أجهزة الامن وبخاصة يوفال ديسكن من المتحمسين للحرب. و في نهاية المطاف حسم الأمر و أتخذ قرار الحرب.
أعدّت اسرائيل جيشها منذ أكثر من سنة ونصف السنة لهذه الحرب، وقامت بتدريب قواتها، وأقامت مدن وقرى وانفاق وشوارع و زواريب، أثناء فترة التدريب بما يتلائم والحالة الجغرافية في قطاع غزة. وقامت بتصفيح دباباتها ومدرعاتها بحيث تكون قادرة على تحمل ضربات قاذفات B29 وصواريخ كورنيت والعبوات الناسفة على شاكلة العبوات التي إستخدمتها كتائب الأقصى والمقاومة الشعبية في قطاع غزة واستطاعت تدمير دبابتان قبل الإنسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة عام 2005 م.
كما أن المعلومات الاستخبارية العسكرية الإسرائيلية التي حصلت عليها فيها تفاصيل عن شبكة الأنفاق، وأماكن تموضع المقاومين الفلسطينين، مستفيدة من معلومات تم جمعها عن طريق جواسيسها و اختراقاتها الأمنية للقوى الفلسطينية وبشكل كبير داخل حماس، وصور طائرات التجسس بدون طيار التي تعمل على مدار ال 24 ساعة دون توقف في سماء قطاع غزة.
شنت إسرائيل حربها ضد قطاع غزة، مستخدمة عنصر المفاجأة، والضربة الأولى الموجعة التي خلقت إرباك كبير في قوات حماس وأجهزتها الأمنية.
كما قامت قواتها الجوية بتمشيط شوارع وساحات وأزقة غزة وقصف معظم الأنفاق فيها، ومراكز القيادة لحماس وشبكة الإتصالات ومخازن الأسلحة والذخيرة، وقطعت طرق الإمداد والمواصلات، ومراكز تموين المقاتلين. الضربات الجوية رافقها قصف من القوات البحرية، استمرت فترة ليست قصيرة قبيل الهجوم البري، وهذا بسبب عدة عوامل:
1- تردد القيادة السياسية في البدء في الهجوم البري خوفاً من تكبد قوات الإحتلال خسائر بشرية على غرار ما تكبدته في حرب تموز 2006 م ضد حزب اللـه في لبنان.
2- اعتمدت تكتيك الأرض المحروقة وإبادة أي مواقع أو قوات أو مدنيين يعترضون طريق القوات البرية.
3- لم تلجأ لأسلوب التوغل السريع، كما حدث في حرب عام 1967 م ، وركزت على شمال القطاع في بيت حانون وبيت لاهيا، وعزبة عبد ربه وجبل الكاشف موقع الإدارة المدنية سابقاً، وفي شرق غزة منطقة الشعف وجبل الريس وشرق التفاح وشرق الشجاعية، وفي منطقة نتساريم سابقاً، مفرق الشهداء، حي الزيتون في العشرة الأيام الأولى من حربها البرية.
كانت القوات الإسرائيلية ترواح في نفس المناطق المذكورة أعلاه كأنها تخوض حرب عصابات بالدبابات وبالمدرعات وقواتها الخاصة.
وبعد ذلك تطور الهجوم لتدخل في عمق مدينة غزة من الناحية الشمالية وتتجاوز منطقة العطاطرة، وحي السلاطين، ومنطقة السودانية والتوام، ومساكن الكرامة وصولاً إلى شمال شارع النصر حتى منطقة شركة هونداي، واقتربت من منطقة المشتل ومبنى المخابرات الرئيسي (مبنى السفينة) الذي يقع على مداخل مخيم الشاطئ.
ومن الناحية الجنوبية الغربية، توغلت في حي تل الهوى والرمال الجنوبي وصولاً إلى الجامعة الإسلامية وحي الصبرة وأصبحت مطلة على شارع الثلاثيني الذي يبعد خمسين متراً عن موقع السرايا الذي يقع في شارع عمر المختار وسط مدينة غزة.
دمرت القوات الإسرائيلية جميع مواقع السلطة الوطنية التي شيدتها منذ عام 1994 م وعلى مدار سنوات إدارتها لقطاع غزة، ولم تبقي منها مركزاً واحداً من شمال قطاع غزة من بيت حانون وحتى مدينة رفح أقصى الجنوب مروراً بكل مدن وقرى ومخيمات القطاع. هذا بالإضافة لأكثر من عشرين ألف منزل.
وفي جنوب قطاع غزة، تعرضت مدينة رفح لأبشع عدوان جوي، وهو غير مسبوق على الإطلاق في كل الحروب التي شنتها إسرائيل ضد أقطارنا العربية.
فكانت المنطقة الحدودية الملاصقة للحدود المصرية عرضة لأثقل أوزان القنابل التدميرية، واستخدم فيها صواريخ من نوع جديد، وهذه الصواريخ تدخل إلى أعماق تتجاوز العشرين متراً ومن ثمّ تنفجر في باطن الأرض، وذلك لتدمير الأنفاق والتحصينات تحت الأرض. كما تعرضت منطقة خزاعة ومنطقة عبسان لهجوم وحشي استخدمت فيه القنابل الفسفورية، الفسفور الأبيض، وهذه القذائف استخدمت في كل مناطق القطاع التي تعرضت للقصف والعدوان.
الحرب على غزة كانت من طرف واحد، من طرف الغازي وهي القوات الإسرائيلية. وبشهادة سكان المناطق التي تعرضت للعدوان، يقولوا أنهم لم يشعروا بأن هناك مقاومة حقيقية بل أنهم تفاجئوا من الإستخدام الهائل للقنابل والقذائف والدبابات والمدفعية والطيران والبحرية ضد المناطق التي تعرضت للعدون التي لم يلاحظ أو يشعر سكانها بوجود مقاتلين فلسطينيين يتصدون لهذه القوات.
وفي بعض المناطق، مثل جبل الريس، لاحظ الأهالي أن هناك مقاومين لكن سرعان ما أخلوا مواقعهم ؟ وكذلك الأمر كان في العطاطرة وحي الزيتون. أما في المناطق الأخرى، في التوام وتل الهوى والرمال الجنوبي والسودانية وبيت حانون، يقول الأهالي أنهم لم يشاهدوا اشتباك حقيقي أو مقاتلين، سوى بعض رشقات تصدر من مناطق مختلفة سرعان ما تنتهي.
ويعترف السكان أن قوات القسام لم تحارب ولم تجابه كبقية القوات الأخرى، وخاصة الكتائب التابعة للجهاد الإسلامي أو كتائب الاقصى التابعة لحركة فتح، وألوية الناصر صلاح الدين.
ويعتقد الأهالي أن قيادة حماس كانت تدرك أن العدوان لن يحتل فطاع غزة، ولن يقوم بتصفية أو إنهاء حماس، لذلك حافظت على قواتها حتى تبقي قوتها في السيطرة على قطاع غزة.
ويقول بعض العارفين أو القريبين من حماس، بأن هدف إسرائيل هو إضعاف حماس ولجمها بحيث تكون غير قادرة على ضرب أي صاروخ تجاه إسرائيل، وإبقاء قوتها داخل قطاع غزة لتكون قادرة على فرض الأمن والسيطرة على السكان ومنع اي قوة قتالية فلسطينية من خارج حماس القيام بأي عمل عدائي ضد إسرائيل.
وباعترافات الأهالي والسكان في كل المناطق، يقولوا أنهم كانوا يشاهدوا مقاتلي حماس بلباسهم المدني وتخفي سلاحها تحت معاطف طويلة، تراقب حركة الناس وتترقب أي تحرك ممكن أن يقوم به الشارع.
وكانت تمارس الضرب والسحل وإطلاق النار على عناصر وأبناء حركة فتح مما أدى إلى قتل عدد منهم وجرح الكثيرين في أقدامهم وسيقانهم بالإضافة إلى استخدام الضرب المبرح لدرجة أن منهم من أصابه الفشل الكلوي وتكسير ضلوعه.
أدرك الجمهور الفلسطيني في غزة، أن إسرائيل هدفها واضح هو تكريس حكم حماس في قطاع غزة وليس إنهائه كما أشاعت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية.
وكان يتردد في الشارع الغزي بأن وقف إطلاق النار سيكون قبل 20/1/2009 م، أي قبل أداء الرئيس الأمريكي باراك أوباما قسم توليه الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية. ويعترف الناس بأن كل قيادات الصف الأول والكوادر القيادية العليا لحركة حماس السياسية والعسكرية والتنظيمية كانت تختبئ في المستشفيات وفي بعض السفارات. ويلمحون بأن اسماعيل هنية كان يختبئ في بيت السفير القطري، ولكن بعد اقتراب قوات الإحتلال إلى المنزل وانسحابها في اليوم التالي، انتقل هنية ليختبئ في مستشفى الشفاء.
وعرف من الذين يختبئون في المستشفى أحمد الجعبري، ومحمود الزهار، وخليل الحية، وأحمد بحر، وعماد عقل، وعز الدين الحداد، وبرهوم ورضوان والغندور وسعيد صيام قبل استشهاده وآخرين.
والرأي السائد في القطاع، أن قيادة حماس المختبئة في غزة فوجئت عندما سمعت رأي قيادتها في دمشق برفض القرار الأممي 1860 . وتم تسجيل بعض المكالمات التي يتذمرون فيها من مواقف قيادتهم في الخارج، مرددين 'أن أيديهم ليست في النار مثلنا، وحياتهم ليست في خطر' والملفت أن الزهار قبل الحرب كان مع تمديد التهدئة وحاول كل جهده حتى تتم الموافقة على المبادرة المصرية بتمديد التهدئة، ولكن عندما أخذت قيادة حماس الخارج قرارها بوقف إطلاق النار، كان موقفه ضد الوقف، ويقدر المطـّلعون أن موقفه كان ردة فعل على اتهامه بـ'الجبن' عندما كان يطالب بالموافقة على تمديد التهدئة، ولكي يثبت لخالد مشعل أنه ليس جباناً، ولكن كان يدرك حجم الكارثة، ومعروف أن الزهار لا يطيق خالد مشعل ويعتبره قائد مكحل العينيين، أناني ومغرور، ذو الأيادي الناعمة، وأنه يتربع على مال لا تأكله نيران ويعيش وأسرته وأولاده في نعيم الملوك والأمراء من قوت وأموال شهداء حماس وغير مهتم بمصير حماس وقيادتها في غزة.
يخشى على موقعه من قيادة حماس في غزة وأنها جماهيرياً أقوى منه، ويتردد أن الزهار صرخ في وجه هنية عندما أبلغه هنية أن 'الأمير' وهنا سأله الزهار 'من تقصد بالأمير' أجابه 'الأخ أبو الوليد' فكان رد الزهار قاسي جداً وقال 'لا أمير علينا إلا الشهداء والمنكوبين في غزة، أما أميرك هو أميرك لوحدك ولن أقبل أن تطلق عليه أمامي هذه الصفة ... قال أمير، ليش هو تغبر مثلنا، أو فقد من أسرته شهداء ، سيبونا من هذه التسميات والكلام الفارغ، إحنا هنا أمراء المعاناة والجهاد والإستشهاد، ويتفضل يتحمل بكرة دفن الشهداء وعلاج الجرحى وإيواء المنكوبين، وإعادة الإعمار والإغاثة الإنسانية للناس ... إلخ'
وبعد توقف القتال وانسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة، فالحس الجماهيري للشعب هناك أدرك أن أهداف إسرائيل من هذه الحرب ليست للتخلص من حماس، ويلخص الرأي العام في قطاع غزة أهداف الحرب بالنقاط التالية :-
1- الهدف الرئيسي لهذه الحرب هو إضعاف مصر وإخراجها من دائرة التأثير في صناعة القرار والموقف العربي. (والملاحظ أن شعبية الرئيس حسني مبارك كبيرة وعالية جداً في غزة ويلاقي محبة واحترام وتقدير لمواقفه الشجاعة، كما أن شعبية الملك عبد اللـه بن عبد العزيز عالية جداً).
2- هناك تنسيق إسرائيلي – قطري يستهدف مصر وسلطة محمود عباس، وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من دائرة الصراع. واستخدام أكذوبة معبر رفح هي لإحراج مصر والسلطة ولتأليب الرأي العام في مصر وفلسطين والعالم العربي ضدهما، وأن الحصار مصري فلسطيني وليس إسرائيلي. (والملاحظ تولد سخط وكراهية عالية لأمير قطر ورئيس وزرائه وللرئيس بشار الأسد وحسن نصر اللـه وإيران)
3- رسم خارطة سياسية جديدة للشرق الأوسط، وذلك لتعزيز الإنقسام العربي ودول الشرق الأوسط وبخاصة إيران وتركيا، بحيث يتم تكريس محورين: محور دول الممانعة والمكون من إيران، سوريا، قطر، حزب اللـه وحماس، ومعهم منظمات الإخوان المسلمين في مصر والأردن بالدرجة الأولى بالإضافة إلى شبكة امتداد جماعة الإخوان المسلمين في الوطن العربي والعالم الإسلامي. ومحور دول الإعتدال والمكون من مصر والسعودية والأردن ودولة الإمارات ومعهم الأقطار العربية الأخرى المغرب، تونس، عُمان والبحرين وكذلك القوى والأحزاب الوطنية والتقدمية والعلمانية في هذه البلدان.
4- تعزيز الإنقسام الفلسطيني وفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية ونقل هذا الإنقسام إلى الفلسطينيين في الشتات والعمل على سحب الإعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وتمكين حماس من أن تصبح الممثل للشعب الفلسطيني.
5- إعطاء تركيا دور لاعب رئيس ما بين القطبين دول الممانعة ودول الإعتدال، وإبراز الحكم الإسلامي في تركيا كقوة شرق أوسطية يساعدها في التخلص من دور العسكرتارية التركية والنظام العلماني. وأن تلعب دور رئيس في قيادة الإسلام السني.
6- تعزيز قوة الإخوان المسلمين في كل من مصر والأردن لتصبح قوى مؤثرة في رسم السياسات وصناعة القرار :-
أ) تحويل الأردن إلى ملكية دستورية، أي الملك يملك ولا يحكم على الطريقة البريطانية، والحكم فيه للحزب أو الأحزاب التي تفوز في الإنتخابات.
ب) مصر: خطة الإخوان المسلمين، والسيناريو المعدّ يشمل ثلاث مراحل:-
I. المرحلة الأولى: تعزيز تغلغل الإخوان المسلمين داخل المجتمع المصري، وبخاصة في مؤسسات الدولة والقوات المسلحة.
II. المرحلة الثانية: تلقي الدعم المالي القادر على إستقطاب الناخبين في الإنتخابات البرلمانية القادمة بحيث يصبح الإخوان